استكمالاً للجزء الأول عن ما ينبغي لنشطاء الحق الفلسطيني أن يعرفوه، نستتبع هنا بقية المستطلحات التصحيحية –إن جاز القول- لوصف الوجود والممارسات الإسرائيلية في فلسطين وفي الختام يجيب المقال عن السؤال الأهم وهو: ما الجدوى من ذلك؟
بداية يجدر الإشارة إلى تعريف "فلسطين" في الكتابات القانونية والقرارات الدولية المختلفة. ففلسطين كما هي وكما نعرفها نحن (الـ27 الف كم) أصبحت اليوم شبه مختفية من خارطة القانون الدولي وتم استبدالها بسميات ظهرت لاحقاً مثل المصطلح السائد حالياً: الأراضي الفلسطينية المحتلة (Occupied Palestinian Territories - OPT).
الأراضي الفلسطينية المحتلة
ويقصد بالأراضي الفلسطينية المحتلة الأراضي الفلسطينية التي قامت "اسرائيل" باحتلالها إثر حرب الأيام الستة عام 1967 أو ما اصطلح على تسميته عربياً بـ"النكسة"، وهي الضفة الغربية (ومن ضمنها "القدس الشرقيّة") وقطاع غزة (المحتل حسب القانون الدولي وإن حاولت "إسرائيل" نفي ذلك). وفي حال تم استخدام مصطلح فلسطين في المحافل القانونية -ويندر هذا- فإن المقصود هو الأراضي الفلسطينية المحتلّة، أي الضفة والقطاع.
ورغم إقرار محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري (Advisory Opinion) عام 2003 حول بناء الجدار العازل أن جميع الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1967 هي أراض محتلة ومن حق الشعب الفلسطيني ممارسة حقه في تقرير المصير عليها إلا أن إسرائيل تصر على التحايل على هذا عبر ادّعائها بانها لم تعد محتلة للقطاع بعد انسحابها الأحادي منه عام 2005 إلا أن هذا الإدعاء باطل لأنها مازالت تسيطر على الحدود البريّة والبحرية والغلاف الجوي وتسجيل السكان ومرور البضائع وعائدات الضرائب, فهذا يجعلها قوة محتلة حسب اتفاقية جينيفا الرابعة.
وتحاول "إسرائيل" أيضا التحايل على وضعية الضفة الغربية والقدس تحديداً عبر لجوئها لحجة "المراجع الغائب" (Missing Revisioner) إلا أن محكمة العدل الدولية ثبتت أن الضفة الغربية والقدس من ضمنها هم جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة التي ينبغي على "اسرائيل" الانسحاب منها ويذكر أنها قامت بضم "القدس الشرقية" للقدس الغربية رسمياً عام 1980 لتصبح "عاصمة دولة إسرائيل" كما هو منصوص عليه في القانون الأساسي الإسرائيلي. إلا أن الرفض والتنديد الدولي جاء واضحاً عبر عدة قرارات ونصوص قانونية ترفض هذا الأمر، أبرزها قرار مجلس الأمن 298 الذي نصت عليه محكمة العدل الدولية في رأيها الإستشاري المذكور سابقاً.
الاستعمار
الاستعمار عمل مرفوض ومنبوذ من المجتمع الدولي في يومنا هذا لارتباطه بحقبة بشعة من التاريخ الإنساني حين قامت بعض الأمم الأوروبية بالإستيلاء على دول وأراضي آسيوية وإفريقية وضمها وإخضاع وإذلال شعوبها وسلب ثرواتها. وقد لفظ العالم تماماً هذه الحقبة إبان الحرب العالمية الثانية حين خرجت القوى الإستعمارية منهكة وغير قادرة على الإستمرار في إخضاع الشعوب المستعمرة –الذين عبروا عن رفضهم إما بثورات عسكرية أو احتجاجات شعبية. لذلك فإن استخدام هذا المصطلح فيه دلالات بليغة ولها ثقل قانوني لأن تجريمه استند على عدة مبادئ قانونية، وهو ينطبق على الحالة الفلسطينية.
ويعد الإعلان عن منح الإستقلال للشعوب والأراضي المستعمرة عام 1960 أبرز أداة تتناول موضوع الاستعمار وترفض كل أشكاله استناداً إلى مبادئ محورية في حقوق الإنسان وتعتبره خطراً على الامن والسلم الدوليين.
ورغم عدم وجود تعريف قانوني دقيق –كما هو الحال مع الإحتلال- للإستعمار إلا أن أبرز السمات متفق عليها نسبياً. فالإستعمار هو الإستيلاء على أرض لتأسيس مستعمرة (colony) واستغلالها واستدامتها وتوسعتها في إقليم ما من قبل قوة سياسية من من إقليم آخر. هو عبارة عن منظومة علاقات غير متكافئة أو عادلة بين قوة إستعمارية وبين السكان الأصليين. وقد بينت معاهدة جنيفا الرابعة أن الممارسات التالية تنقل القوة المحتلة (Occupying Power) من خانة الإحتلال إلى خانة النظام الإستعماري وهو مرفوض قانونيا –كما سيأتي لاحقاً:- انتهاك وحدة أراضي الإقليم الخاضع للإحتلال.
- حرمان سكان الأراضي المحتلة من القدرة على الحكم الذاتي
- دمج أو ربط اقتصاد الأراضي المحتلة بإقتصاد القوة المحتلة.
- حرمان السكان الخاضعين للإحتلال من السيادة على المصادر الطبيعية.
- الهيمنة الثقافية التي تهدد هوية السكان الخاضعين للإحتلال بحيث تؤثر على قدرتهم في التعبير عن حقهم في تقرير المصير.
وقبل الإشارة إلى وضعية "إسرائيل" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيجب التأكيد على أن ضم إسرائيل للقدس تحديداً هو عمل استعماري قطعاً (مثل ضم فرنسا للجزائر على سبيل المثال) حيث أنها أعلنت ذلك رسمياً في قانونها الأساسي.
أما فيما يتعلق بالوجود الإسرايلي في بقية "الأراضي الفلسطينية المحتلة" فإنها أيضا أراضي مستعمرة وإن كانت الصورة أقل وضوحاً. فالاحتلال قد تمت استدامته عمداً لمدة تقارب الخمسين عامأ وهذا يتنافى تماماً مع طبيعة الاحتلال الذي من المفترض أن يكون مؤقتاً.
عدا عن ذلك فإن مأسسة هذا الوجود بشكل واضح تبيّن أنه وجود استعماري غير مؤقت. فـ"اسرائيل" تربط الإقتصاد الفلسطيني باقتصادها وتنتهك وحدة الأراضي الفلسطينية (بالذات في الضفة) وتقتطع أجزاء كبيرة لمستعمراتها المدنية والعسكرية وتوسها وتنقل سكانها إلى الأراضي الفلسطينية وتمأسس وجودهم، وتمنع الفلسطينيين من الممارسة الفعلية للحكم الذاتي والسيادة فوق المصادر الطبيعية، بل وتهدد هويتهم (مثل الفصل الكامل بين الضفة وغزة) بشكل يؤثر على مقدرتهم في تقرير مصيرهم.
الأبارتهايد
الأبارتهايد هي كلمة ظهرت بداية في جنوب إفريقيا لوصف النظام العنصري ضد السود هناك، وتعني حرفياً العزل أو الإنفراد وذلك لأن سياسات الدولة كانت تقوم على عزل البيض عن السود وتعزيز هيمنتهم. وفي يومنا هذه يعد الأبارتهايد جريمة تستوجب العقاب فممارسته تعد "تمييزاً فاضحاً على وجه الخصوص" كما وصف في "المعاهدة الدولية لإلغاء جميع أشكال التمييز العرقي" (ICERD).
وقامت المعاهدة الدولية لكبت وعقاب جريمة الأبارتهايد عام 1973 بتعريفه على أنّه "الأعمال غير الإنسانية المرتكبة لتأسيس واستدامة هيمنة مجموعة عرقية على مجموعة عرقية أخرى وظلمها بشكل منهجي". واعتبرها نظام روما الأساسي المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية جريمة ضد الإنسانية وعرفها على أنها "الأعمال غير الإنسانية المرتكبة في سياق -ولإستدامة- نظام ممأسس للظلم المنهجي وهيمنة مجموعة عرقية على أخرى".
وكما نرى فهناك تركيز على أنه يجب أن يكون ممأسساً وممنهج حتى يعبتر في خانة الأبارتهايد. وقد أصبحت جريمة الأبارتهايد بمستوى القانون الدوي العرفي وكقاعدة حاكمة (jus cogens) توجب التزامات على المجتمع الدولي (erga omnes).
وتزداد قناعة المؤسسات الدولية يوماً بعد يوم أن الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بات يشكل منظومة أبارثايد عبر هيمنة العرق اليهودي بشكل واضح وممأسس ومنهجي على السكان الاصليين الفلسطينييان –بل وضد عرب الـ48 المفترض أن يكونوا مواطنين حسب تعريف القانون الأساسي لهم. وسيأتي تفصيل تاريخ الأبارتهايد وأشكاله في جنوب إفريقيا وفلسطين والقوانين الدولية التي تجرمه في مقال قريب بإذن الله.
ما الجدوى؟
أما وقد تبين أمامنا تبيان بعض المصطلحات ذات البعد القانوني وتبين وجود انتهاكات صارخة للقانون الدولي من قبل الكيان الصهيوني فإن السؤال المهم الآن هو: وماذا يجدي ذلك في استعادة الحقوق الفلسطينية؟
بناء على القانون الدولي الإنساني فإن الدول الموقعة على الإتفاقيات المختلفة –مثل اتفاقية جينيفا- لديها التزامات تجاه تلك الإتفاقيات، وبعض الإتفاقيات تكون ملزمة لجميع دول العالم –حتى غير الموقعين- في حال اكتسبت الإتفاقية صفة القانون الدولي العرفي. فالقوانين التي تجرّم الإستعمار والأبارتهايد والإبادة الجماعية والتطهير العرقي واكتساب الأراضي عن طريق القوة هي قوانين ملزمة لكافّة المجتمع الدولي –سواء وقع بعضهم أم لا- لأنها اكتسبت صفة القانون الدولي العرفي بل وبعضها نال صفة الأعراف الحاكمة (jus cogens) وهي أعلى مراتب القوانين الدولية.
لذلك يترتب التالي على كل من:
- "اسرائيل": عليها الإلتزام بالإتفاقيات الدولية إضافة إلى القيام بـ
(1) التوقف عن الانتهاكات الجارية.
(2) دفع وتوفير تعويضات كاملة للضحايا والمتضررين الفلسطينيين.
- جميع الدول والمنظمات الدولية: بناء على الانتهاكات الإسرايلية المستمرة فيتوجب على الدول والمنظمات الدولية:
(1) أن يتعاونوا لوقف وإنهاء الإنتهاكات الإسرائيلية الصارخة.
(2) عدم الاعتراف بالحالة الراهنة التي صنعتها "إسرائيل" أو قبول شرعنتها وعدم مساعدة أو دعم "إسرائيل" في استدامة هذه الحالة
- الكيانات الخاصة (من منظمات أهلية محلية أو دولية وشركات تجارية أو ما شابه): فإن عليها احترام القانون الدولي الإنسان وقانون حقوق الإنسان والإمتناع عن المشاركة (أو إيقافها إن وجدت) في الإنتهاكات الإسرائيلية الصارخة وهم مسؤولون قانونيا (بل وجنائياً عبر مسؤوليهم ومدرائهم) في حال لم يلتزموا بذلك.
- جميع الدول وتحديداً الموقعين على نظام روما الأساسي والإتفاقيات الأخرى التي تتطلت تفعيل مبدأ الإختصاص العالمي (Universal Jurisdiction) الذي يقضي بمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية مثل الاتفاقية ضد التعذيب واتفاثية الأبارتهايد. فبذلك يتوجب عليها السعي لجلب المسؤولين عن جرائم دولية إلى العدالة عبر:
(1) تسليم المنتهكين للمحكمة الجنائية الدولية أو مقاضاتهم محلياً في محاكمهم.
(2) القيام بسن التشريعات والإجرائات اللازمة في القانون المحلي لمكافحة هذه الجريمة ومرتكبيها والمتعاونين معهم. (3) التعاون مع الهيات المعنية في حال اتخاذ الإجراءات اللازمة.
في الختام يذكر الكاتب بقصة جنوب إفريقيا حين انتصرت إرادة المظلوم عبر صموده والسعي لمقاطعة الحكومة العنصرية دولياً حتى انهكت اقتصادياً وسياسياً بسبب عزلتها الدولية. وبإمكان صانع القرار الفلسطيني أن يتخذ عدة إجراءات في المحاكم والهيئات الدولية مثل مقاضاة المسؤولين الصهاينة و شن حملات لطرد دولة الكيان الصهيوني من المنظمات الدولية المختلفة مثل الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات التابعة لها. (وسيجري التفصيل في ذلك في كتابات قادمة بإذن الله).
تذكير مهم جداً
ومما ينبغي التنويه إليه أن ما ورد في هذا الجزء والذي سبقه يتعاملان مع القضية ضمن السياق القانوني الدولي الذي يستند على قراري التقسيم 181 والقرار 242، ورغم أن قرار التقسيم 181 عام 1947 كان جائراُ للعرب مجملاً وللشعب العربي الفلسطيني تحديداً إلا أن العصابات الصهيونية تجاوزته بقوة سلاحها لتفرض واقعاً جديداً تحت قرار 242 لإيجاد حل "عادل" للقضية.
*ملحوظة: الترجمات الواردة في المقال –سواء تمت الإشارة إليها أم لا - هي للكاتب وليست من النص القانوني المعتمدة ترجمته للعربية.